عهدًا لن يُخلَف
(الله أكبر) كبر الإمام مفتتحا صلاة العصر، فهدأت الأصوات، وخشعت الأرواح. قطع تلك السكينة صوت فرامل سيارة توقفت أمام المسجد، نزل منها رجال أدركوا الصلاة مع الإمام.
(السلام عليكم) سلم الإمام وتفرق المصلون، وبقي ثلاثة رجال يرتدون زيًا عسكريا، اقترب أحدهم من الشيخ فقال : السلام عليكم يا شيخنا، كيف حالك ؟
رد الشيخ في وقار : وعليكم السلام، الحمد لله، استأنف الرجل : ألم تعرفني يا شيخنا ؟
ــ الصوت مألوف، والوجه غير معروف، اعذرني يا بني فقد ضعف بصري، لكن لصوتك رنينا أعرفه.
ابتسم الرجل وأردف : أنا إبراهيم.
انفرجت أسارير الشيخ وقال : إبراهيم، عرفت صوتك وغابت عني صورتك، إن لقارئ القرآن صوتا معروفا عند أهل الأرض والسماء، كيف حالك يا بني ؟ ما غيبك عنا كل هذه السنين ؟ كنت قد دعوت الله أن يصلح بكم البلاد أنت ورفاقك : محمد وعلي وسالم وعبد الله.
تلعثم إبراهيم وقال : خيرا خيرا، إني لم أرهم منذ مدة.
التفت أحد المصلين في مصلاه وكان يردد أذكارًا بعد الصلاة، واقترب من إبراهيم وسلم عليه بحرارة قائلاً : إبراهيم يا صديقي كيف أنت ؟ وما هذه الثياب التي ترتديها ؟ هل أصبحت عسكريا !! أم تراك انضممت إلى إحدى الجماعات المسلحة !!
جذبه إبراهيم خارج المسجد لئلا يسمع الشيخ حديثهما قائلا : إنني مهما ارتديت من ثياب فما هي إلا من أجل عمل أؤديه، ومازال إبراهيم الذي تعرفه لم يتغير.
رد عبد الله : طبعا طبعا. ما أخبار علي وسالم ومحمد ؟
– أما محمد فقد التقيته منذ مدة وأعطاني رقم هاتفه، وتواعدنا أن نتواصل، ونلتقي قريبا، وقد سألته عن الباقين فأخبرني أنه يلتقي سالما بين الحين والآخر فقد صار يربطهما نسب عائلي.
– رائع جدًا، ما رأيك أن تتصل به وبمن يعرف رقمه من المجموعة ونتواعد أن نلتقي هنا في المسجد، نعيد ذكرياتنا ونطمئن على أحوال بعضنا ؟.
– فكرة رائعة، متى يكون ذلك ؟
– الأول من الشهر القادم بعد صلاة العصر.
واتفقا أن تلتئم الجماعة مثلما كانت تلتقي كل مساء لتتعاهد كتاب الله بالحفظ والتلاوة على يد ذلك الشيخ.
بعد أيام كانت الاتصالات تجري بين الشباب ويتواعدون على ملتقى أول الشهر. فكل منهم قد اشتاق لتلك الأيام الرائعة ولأحاديث ومواعظ الشيخ، فقد كان له أثر عظيم في حياتهم، لا يخطون خطوة دون استشارته، فقد كان حكيما عالما بعيد النظر، وكانوا يجلونه ويحترمونه، وفي هذا المسجد تحديدا كانت تتعالى أصواتهم بالتلاوة، وتتسابق نفوسهم للحفظ، وفي نفس كل منهم آمال وطموحات كبيرة يرمون لتحقيقها، ولكن ماذا حدث لهم في هذه السنين.؟
لقد تفرقوا، وشق كل منهم طريقه، وانقطعت بينهم الأخبار.
جاء اليوم الموعود، وتوجه كل منهم لأداء صلاة العصر في المسجد العتيق، وكل متعطش لأخبار الآخرين، وفي نفسه خجل من تقصيره وخيبة آماله.
دخلوا المسجد، وكل تفاجأ حين لم يجد الشيخ جالسا في مصلاه، فقد كان دائما أول الواصلين، وإمام المصلين، ومعلما للقرآن الكريم، يقضي في المسجد جل نهاره.
تساءلوا جميعا عن الشيخ، فكان الجواب على لسان عبد الله الذي لازمه في الفترة الأخيرة بأنه أصيب بوعكة صحية ألزمته الفراش ثم دخول المستشفى للعناية والمتابعة.
تألم الجميع لمرض الشيخ، فللشيخ مكانة عظيمة في نفوسهم، فقد كانوا جميعا تلاميذه وحفظوا من القرآن على يديه ما شاء الله.
أنهوا صلاتهم، وجلسوا في زاوية المسجد يتفقدون أحوال بعضهم، فبدأ عبد الله الحديث مُرَحِّبًا :
أهلا بكم يا رفاق، لقد اشتقت لهذا الجمع الكريم. وإني أعلم أن كلا منا يود أن يعرف ما آلت إليه أحوال الآخرين، ولسوف أبدأ بنفسي، فبعد الدراسة الجامعية صرت معلما للأطفال في المدرسة المجاورة للمسجد، وقد أحببت هذه المهنة وأفرغت لها جل وقتي، وفي المساء لازمت الشيخ وصرت أساعده في تحفيظ القرآن الكريم، أو أقضي بعض حوائجه عرفانا مني لفضله. وقد تزوجت وصرت أبًا لطفلين.
قال إبراهيم : هنيئا لك العمل في التعليم فإن فيه أجرا كبيرا عند الله رغم ما نعلم من قلة الرواتب وضيق العيش.
أطرق عبد الله يفكر في الغرفة التي يسكنها في بيت أهله، وكيف أنه لم يتمكن من توفير مسكن خاص به وبعائلته، ثم توجه إلى محمد قائلا : وماذا عنك يا محمد ؟
رد محمد قائلا : بعد وفاة أبي – رحمه الله – صرت مسؤولا عن أمي وأخواتي. تعلمون أنني الابن الوحيد. و. وقد تركت الدراسة وتوجهت للمزرعة أعمل فيها بكل ما أوتيت من قوة وعزم لأعيل عائلتي، فأنا مشغول فيها من طلوع الشمس حتى آخر النهار، أبثها جهدي وألمي واسقيها بعرقي، فتجود أحيانا وتمسك أخرى، فخبرتي في الزراعة قليلة. رحم الله أبي كان يفرغني للدراسة وطلب العلم، ويتولى هو العمل والمشقة.
نظر الجميع في صمت إلا عبد الله الذي قال : أعانك الله على ما تحمل من مسؤولية لطالما كنت أذكانا وأسرعنا بديهة، وكان الشيخ يرى أنك ستكون ذا شأن بعلمك وحدة ذكائك، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
شعر الجميع بالأسف، فهم يعلمون أن عائلة محمد كبيرة، وأن حمله ثقيل في ظل شظف العيش في هذه السنين العجاف، شعروا جميعا بالحسرة والألم، فقد ضاعت أحلامه، وتكسرت آماله على واقع أليم لشاب في مقتبل العمر.
رفع محمد رأسه وتوجه لإ براهيم بالسؤال، فقد كان متأثرا جدًا، فأراد أن يغير الحديث، ماذا عنك يا إبراهيم ؟
انتفض إبراهيم وتلعثم : أنا. أنا. تعلمون أن عائلتي من البسطاء الكادحين، وأمي منذ زمن تعاني مرضا عضالا، وأن علاجها يحتاج للسفر إلى دولة أكثر تقدما في الطب، وضيق الحال يمنعنا.، لذلك قررت أن أتكفل بعلاجها، كفاها مرضا وألما، وقد فعلت. أرسلتها للعلاج وهي الآن تتماثل للشفاء والحمد لله.
لم ير الفرحة في عيون رفاقه بل حاصرته نظرات الشك والاتهام. ثم نطق محمد : وكيف استطعت ذلك ؟ من أين لك بالمال ؟ إن تكلفة السفر والعلاج لتعادل ثروة كبيرة.
رد إبراهيم بانفعال واضح : لقد عملت في عمل يتبع أجهزة الأمن، وإنهم يدفعون أجورا مرتفعة، فاخترت الثراء والمال على الدراسة والوظيفة التي لا توفر إلا الحد الأدنى من الحياة الكريمة، بل تعد بالفقر طول العمر.
خيّم صمت رهيب، فمن جهة معه حق، ولكن حصوله على المال بهذه الطريقة يعني أنه ربما أصبح قاتلا مأجورا أو عضوا في تنظيم مسلح يسيطر على جهة ما من الدولة، ويستنزف مقدراتها ويسرق قوت غيره من الكادحين، أو أنه يشارك في هذه الحروب الدائرة للسيطرة على الحكم، فتهلك الحرث والنسل.
شعر الجميع بالأسف إلا سالمًا فقد انفجر غاضبا. تحصلون على أجور مرتفعة لقاء القتل والدمار، تتقاتلون فيما بينكم ولا يهم من يموت أو يهدم منزله. لا يهم من يصبح مهجرا فاقدا لأهله ومسكنه، ومصدر رزقه.
أتعلم أنني فقدت أخي في هذه الحروب برصاصة طائشة. أتعلم أنّنا هُجِّرنا من بيتنا منذ عام بسببكم – أنتم المسلحون -.
قاطعه إبراهيم : على رسلك يا سالم، فإني لم أطلق رصاصة واحدة من مسدسي، فأنا أعمل سائقا وحارسا شخصيا لشخص مهم، وإنه ليؤلمني ما آلت إليه الأوضاع في قريتكم ويحزنني جدا موت أخيك، ولكنني اخترت أن أعيش في رفاهة، وأعالج أمي على أن أبقى مكتوف اليدين. قاطعه سالم : ذلك شأنكم. تعيشون ويموت غيركم، تُرَفَّهون ويعاني غيركم شظف العيش وضيق الحال.
قطع عبد الله الحديث : عظم الله أجرك في أخيك، لم نعلم بوفاته فلا حول ولا قوة إلا بالله. فكيف تصنع بعد أن هُجِّرتم من بيتكم ؟
ردّ سالم في حُرقة : استضافنا أحد أقاربنا، ثم استأجرت بيتا صغيرا. إنه وإن كان متهالكا يفتقر للكثير، إلا أنه يظل أفضل من أن نكون عالة على غيرنا ؛ أما أخي – رحمه الله – فقد ترك ثلاثة أولاد. وقد عملت في تركيب وتصليح أجهزة التكييف، وفي وقت فراغي أعمل في جمعية خيرية تكفل مجموعة من الأسر الفقيرة، وتقدم لهم المساعدات.
سيطر الحزن على الجميع لما صار إليه حال سالم وعائلته، فقد كان مهندسا واعدا، إلا أن أكثرهم تأثرا هو إبراهيم، فقد بدا الضيق واضحا عليه.
ثم تساءل سالم. أين علي. ؟
رد محمد في حرقة. علي. آهٍ من علي.
توجهت الأنظار إليه فقال : إن عليًا قد انضم إلى جماعة متطرفة وقد هجَر عائلته، بعد أن ساءت علاقته بأهله وجيرانه جدا، ولم يفلح أحد في إقناعه بالعدول عن رأيه، أو حتى التروي في قراره، وانقطعت أخباره من يومها، مخلفا الحسرة في قلب كل من يعرفه.
خيم الوجوم عليهم جميعا، فمع كل ما لاقوه في حياتهم إلا أن هذا المصير كان الأبشع والأخطر على الإطلاق.
جالت في ذهن عبد الله ذكريات عن علي. لطالما كان غامضا كثير الصمت لا يحب أن يتحدث كثيرا عن نفسه، ولكن مع ذلك كان أحيانا ضحوكا مرحا، و كان حاد الذكاء محبا للعلم، كم هو مؤسف أن نخسر شابا بهذه الصفات !! و تساءل : هل قصرنا في نصحه ؟ أكان الحال يتغير لو كنا معا يساعد بعضنا بعضا.؟
وهنا لمعت بذهنه فكرة ذكية فقال : يا رفاق الصبا والشباب، ما رأيكم أن نخصص غرة كل شهر لتكون موعدا نجتمع فيه هنا في هذا المسجد. نتشاور ونتعاضد ونفيد بعضنا، فالمرء كثير بإخوانه.
لاقى اقتراحه القبول والترحيب واتفقوا على غرة كل شهر موعدا متجددا.
نهض إبراهيم و قال : فلنذهب سوية لزيارة شيخنا و الاطمئنان عليه، نهض الجميع وتوجهوا إلى المستشفى. فوجئوا بأن الزيارة ممنوعة، وأن صحة الشيخ قد تدهورت جدا، لذلك احتاج للعناية الفائقة.
عاد الجميع أدراجهم يعتصر قلوبهم الحزن، داعين الله له بالشفاء العاجل.
بعد أيام كانت الهواتف ترن في اتصالات متتالية، تخبرهم بفاجعة وفاة الشيخ.
اجتمعوا لأداء صلاة الجنازة، وتقديم واجب العزاء لأهل الشيخ.
كانوا في حالة من الحزن و الألم، فقد فاتهم الكثير في صحبة الشيخ، ثم اجتمعوا في المسجد وكأنما يحاولون تدارك شيء من أثره، جلسوا يواسون بعضهم ويتذكرون مواقف الشيخ ومناقبه.
قال سالم : هنيئًا لك يا عبد الله صحبة الشيخ في الأعوام الأخيرة، في حين انشغل كل منا بحياته، حدِّثنا كيف كان في أيامه الأخيرة ؟ وبم أوصاك ؟
قال عبد الله : وهو يمسح دمعةً حارة انحدرت على خده. رحمه الله – كان كما عرفتموه لا يتخلف عن الصلاة، ولا يتأخر عن مجلس العلم، وكنا لا نفتأ نذكركم، ونتساءل عن أخباركم، وكان يدعو لنا فيقول : أسأل الله أن ينفع بكم البلاد والعباد.
غالب كل منهم دموعه، وأخذوا يدعون له بالرحمة و المغفرة.
استأنف عبد الله : كيف يمكن أن نكون نافعين للبلاد والعباد ؟ ماذا يمكن أن نفعل لتحقيق ذلك؟
أطرق كل منهم يفكر في نفسه ويتساءل : كيف أفيد بلدي وغيري ؟. ما الرسالة التي علي تحقيقها ؟
رفع سالم رأسه وقال : إني أكفل أولاد أخي، وإني أرجو الله أن يوفقني وأُعِدّهم ليكونوا رجالا صالحين يفيدون بلدهم، كما إنني متطوع في جمعية خيرية تكفل مجموعة من الأسر التي لا معيل لها، وإني أبتغي وجه الله في هذا وأرجو منه القبول.
قال عبد الله : بارك الله فيك، إن كفالة الأيتام عمل عظيم، ولسوف نساعد بما نستطيع من جهد ومال في تطوير الجمعية لتوسع نشاطها فتساعد عددا أكبر من المحتاجين ؛ أما عني فإن عملي في تدريس الأطفال كما تعلمون، وإني أعاهد الله أن أبذل ما بوسعي لأغرس فيهم تعاليم الإسلام، وحب بلادهم، فيكونوا جيلا صالحا يخدم بلده، ويحافظ عليها ؛ وأما في المساء فإني نويت أن أكمل ما بدأه شيخي في تحفيظ القرآن راجيا الله أن أكون قد أديت واجبي اتجاه الله واتجاه مجتمعي.
أثنى الجميع عليه وتمنوا له التوفيق. ثم تحدث محمد فقال : تعلمون أن العمل في الزراعة يحتاج لجهد ووقت كبيرين، و كنت قد اقترحت على أصحاب المزارع المجاورة لمزرعتي أن نبحث عن مهندسين زراعيين نتشارك معهم، نحن بجهدنا و مزارعنا، وهم بعلمهم و خبرتهم في الزراعة، فيقل الجهد و الوقت، ويزيد الإنتاج، ويتحسن الدخل، ونتمكن من زراعة مساحات أكبر،. فقد حبانا الله بلادا واسعة مترامية الأطراف، وهي تحتاج لمن يستصلحها و يستثمرها ويفيد من خيراتها.، والاهتمام بالزراعة يساعد أيضا في زيادة مصادر الدخل، ويوفر لنا قوتنا، ويحفظ الأرض من التصحر. فقد غدا التصحر خطرا كبيرا، يهدد الأراضي الزراعية.
قال إبراهيم : إنها لفكرة رائعة، وعمل عظيم، أعانكم الله على تحقيقها. لطالما كنت مجدا نشيطا، فاستعن بالله، ثم بخبرة ذوي الاختصاص، و لن يضيع جهدكم بإذن الله تعالى.
أثنى الجميع عليه، و دعوا له بالتوفيق، ثم توجهت الأنظار إلى إبراهيم ؛ فقال : قد أخبرتكم أني أعمل حارسا شخصيا لرجل مهم من صناع القرار في بلادنا، و هو يثق بي جدا، فأنا ألازمه أغلب الوقت وأؤمه في الصلاة، وهو يحترم رأيي، و يقول إنه يريد سماع مشاكل الناس ومعاناتهم من الطبقة الكادحة و المتوسطة ليحاول الإصلاح. وإني من هذا المنطلق أشير عليه بما يرضي الله، وينفع الناس، وأحذره من بعض من يكيدون له ممن يغلبون مصالحهم على مصلحة البلاد والعباد، راجيا التوفيق و السداد من الله، وأن يوفقني وإياه للرأي الصائب و العمل النافع في الدنيا والآخرة.
قال سالم وقد علت وجهه ابتسامة رضا كبيرة : وفقك الله يا صديقي، إن هذا لعمل نافع، فصلاح الساسة فيه صلاح للرعية، إنك من موقعك تحارب الفساد وتوصل صوت الناس لصناع القرار، الذين يودون خدمة بلدهم و مجتمعهم.
وهنا بسط عبد الله كفه قائلا : فلنتعاهد على أن نبدل ما بوسعنا في عمل الخير، كل من مكانه و عمله. ولا تنسوا الدعاء لشيخنا بالرحمة والمغفرة، ولكل من علمنا، والدعاء لعلي أن يهديه الله سواء السبيل، وينجيه من شرور الجماعات المتطرفة.
بسط الجميع أكفهم، وشد كل واحد منهم على يد أخيه، وتعاهدوا أن يتبادلوا النصح والمشورة، ويتعاونوا لمساعدة بعضهم البعض، على أن يكون موعدهم غرة كل شهر بعد صلاة العصر، موعدا لن يُخلَفَ بإذن الله.
اترك تعليقاً